إن من أَجَلّ الغايات التي تريد رسالة الإسلام تحقيقها؛ أن يكون للإنسان خلق كريم، وسلوك قويم يتفق مع ما خلق له من خلافة في الأرض، وهو ما دعا له العلماء والمصلحون في كل زمان، وما ذلك إلا لكون الأخلاق ميزان شرعي يهذب الإنسان، ويرقى به إلى مدارج الإنسانية الفاضلة، ومن يتأمل آيات القرآن، ويمعن فيها النظر، سيجد صور ومجالات المنهج الأخلاقي الفريد لتربية الفرد والمجتمع ظاهرة جلية في كل أمر ونهي.
حول المنهج الرباني للتربية، تحدث فضيلة الدكتور خالد بن على الغامدي، إمام الحرم المكي، أن من المقاصد العظيمة لآيات القرآن؛ تربية الأمة على الصدق، وتحري الدقة قدر المستطاع في تداول الأخبار والأقوال، حيث أمر الله المؤمنين بألا يقبلوا أخبارا إلا ممن عرفوا صدقه، واختبروا ثقته وعدالته، حتى يتيقنوا أن النبأ الذي يحمله صحيحا صادقا، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ الحجرات :6، من هنا نجد أن تحري الصدق في نقل الأنباء مبدأ من مبادئ الدين الأساسية التي يهذب بها المولى عز وجل عباده المؤمنين؛ فوجوب التثبت من الأخبار والأقوال يجنب المسلم أن يقع في الظلم والعدوان على إخوانه، ويجنب المجتمع حدوث شحناء وبغضاء من وراء خبر كاذب، أو شائعة مغرضة.
وأضاف فضيلة الدكتور أن الله سبحانه وتعالى قد وضع خطوات عملية في القرآن الكريم تهدف إلى علاج ظاهرة انتشار الأخبار الكاذبة؛ أولها التثبت والتيقن وتحري أخبار الصادقين، والسعي بكل السبل للتأكد من مصادر الأخبار، "فبئس مطية الرجل زعموا" [سنن أبي داوود]، يقول ربنا عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ النساء: 94.
مثال على ذلك سورة النور التي نزلت حاملة علاج متكامل لتلك المشكلة الاجتماعية الخطيرة؛ مشكلة انتشار الشائعات، ووضعت خطوات للحد من انتشار الأخبار الكاذبة، ورتبت عقوبات رادعة تحمي المجتمع المسلم من شيوع الكذب والقذف والإساءة للناس، فقد عنت السورة بحادثة الإفك والفرية العظيمة التي افتراها المنافقون على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرد الله عليهم هذه الفرية، وبرأ الصديقة بنت الصديق، ووضع خطوات لعلاج مثل هذه الأمراض الاجتماعية.
من ناحية أخرى يرى فضيلة الدكتور أن المنهج الأخلاقي القرآني العظيم، يحرص كل الحرص على صون المجتمع من التفرق والتنازع، ويقطع الطريق على كل فعل وقول يؤدي إلى الاقتتال وسفك الدماء، مؤكدا أن هذا الدين الحنيف جاء بالألفة والمحبة، وحرم الظلم و العدوان والاعتداء على الحقوق، حيث المؤمنون إخوة، متحابون متماسكون متآلفون، وأي فعل يريد بث الفرقة بين المسلمين، والتحريض على سفك الدماء بغير حق هو إثم دون شك، ومحرم بأمر الله سبحانه وتعالى وعقوبته مغلظة من أشد العقوبات؛ ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ النساء:93، وقد روي أنه جاء رجل لابن عباس يسأله هل للقاتل توبة، قال: لا، ليس للقاتل توبة، هذا تحذير من هذا الإثم العظيم حتى لا ينفرط العقد؛ عقد الأخوة والمحبة بين المسلمين، إذا بدأ كل واحد يبسط يده لأخيه بالأذى، انتشرت الفوضى، وانقلب النظام، واضطربت حياة الناس.
يؤكد الشيخ الغامدي إن حقن الدماء، وحفظ النفس من أسمى المقاصد التي جاءت بها الشرائع السماوية كلها، والله سبحانه وتعالى قد أقر في القرآن قاعدة التعامل في النزاعات حين قال في الآية ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ ﴾ الحجرات:9، فالأصل في الأمور ألا يحدث اقتتال بين المسلمين، فإن وقع شيء من هذا فهو حالة استثنائية، الواجب تجاهها هو الإصلاح، وأن ينبري حكماء وعقلاء الأمة كي يدفعوا هذا الشر عن المسلمين، فإذا لم يجد الإصلاح نفعا، على ولي الأمر أن يقاتل الفئة الباغية، بإجماع العلماء.
هكذا يريد الله عز وجل أن يبني المجتمع، ويحميه من مفسدات العلاقة الإنسانية، وهكذا يربي القرآن الأفراد، حتى تسود المحبة والألفة والتناصح بين المسلمين، وأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وجوبا وليس اختيارا، (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) متفق عليه.